يبدو أن تصاعد حدة الصراعات غير التقليدية في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية بين بعض القوى الإقليمية والدولية المعنية بأزماتها وعدد من التنظيمات الإرهابية، قد أدى إلى ظهور نمط جديد من الحروب بدأت ملامحه في التبلور خلال السنوات الماضية، وهو النمط الذي يتصل -إلى حد كبير- بالحروب النفسية والإعلامية، ولكنه يعتمد على آلية تقليدية في حد ذاتها، وهى "مقاطع الفيديو المصورة" التي تُبث على المواقع الإلكترونية، تحقيقًا لأهداف عدة من بينها إثبات النفوذ على الأرض، وتضخيم القوة، واستقطاب المتعاطفين.
وربما يمكن القول إن تنظيم "القاعدة" قد بدأ بهذه المحاولات انتشاره على شبكة الإنترنت ثم القنوات التليفزيونية، واستخدمها بكثافة من بعده تنظيم "داعش"، الذي أظهر وحشية غير مسبوقة في قتل الضحايا، واستعان بأحدث الوسائل السمعية والبصرية في إنتاج فيديوهاته، بل وحرص على امتلاك مؤسسات إعلامية متخصصة في تقنيات الصوت، وأخرى في تقنيات الصورة تتمثل مهمتها في إنتاج فيديوهات فائقة الجودة وشديدة الحرفية.
آراء متباينة:
وقد أثارت مقاطع الفيديو التي يبثها تنظيم "داعش" جدلا واسعًا حول مصداقيتها، وهل يمثل خضوعها لعمليات مونتاج واضحة لتخرج بهذه الصورة الحرفية الأقرب إلى الأفلام السينمائية، دليلا على أنها "مفبركة" أو على أقل تقدير نصف حقيقية أم لا.
وفي هذا السياق، تباينت الآراء حول العديد من المقاطع المصورة التي قام التنظيم ببثها، لا سيما مقاطع قتل بعض المصريين في ليبيا، وإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيًّا، بعكس الفيديوهات التي كان يطلقها تنظيم "القاعدة" على موقعه الإلكتروني، والتي اتسمت بتواضع التصوير، وغاب عن أغلبها جودة الصوت، نظرًا لتصويرها وتسجيلها في كهوف وجبال، وغالبًا ما كان يتم تصوير قيادات التنظيم مكشوفي الوجوه خلال حديثهم للكاميرات.
وقد تجدد هذا الجدل حول مصداقية مقاطع الفيديو التي يبثها تنظيم "داعش" وغيرها من الفيديوهات المصورة لتنظيمات إرهابية أخرى، عقب نشر تقارير عديدة تكشف أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تعاقدت، بعد احتلال العراق عام 2003، مع شركة للعلاقات العامة لإنتاج ونشر فيديوهات "وهمية" لتنظيم "القاعدة"، وهو ما يُشير بوضوح إلى أهمية هذه الوسيلة بالنسبة للتنظيمات الإرهابية من جانب، والقوى التي تشارك في الحرب على الإرهاب من جانب آخر.
هدفان رئيسيان:
وقد أشارت التقارير التي كشفت تلك المعلومات إلى أن ثمة هدفين رئيسيين سعت وزارة الدفاع الأمريكية إلى تحقيقهما من خلال إنتاج تلك الفيديوهات. يتمثل أولهما، في تعقب الأشخاص الذين يُشاهدونها، نظرًا لأن مشاهدة هذه الفيديوهات يتطلب الولوج إلى مواقع بعينها يمكنها التقاط معلومات عن الجهاز المستخدم في الدخول للمواقع، ومن ثمّ تتبع صاحبه.
ومن دون شك، فإن ذلك يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن آليات الحرب على الإرهاب اتخذت أنماطًا جديدة لم تكن مستخدمة من قبل، وأن ما يمكن تسميته بـ"سلاح الفيديوهات" -إن جاز التعبير- لم يعد حكرًا فقط على التنظيمات الإرهابية التي عادةً ما تستخدمه في توصيل رسالتها، سواء بغرض تجنيد أعضاء جدد وزيادة المتعاطفين، أو إثبات الوجود والنفوذ على الأرض.
وينصرف ثانيهما، إلى تبرير الحرب على الإرهاب، وإضفاء مزيد من الأهمية والزخم على الوجود العسكري الأمريكي في العراق، من خلال تركيز الفيديوهات على استمرار نشاط تنظيم "القاعدة" ومهاجمته لأهداف حيوية عديدة في العراق، بشكل يمكن أن يساعد سواء في استقطاب مزيد من الدعم الإقليمي والدولي للحرب على الإرهاب، ولا سيما تنظيم "القاعدة" في تلك الفترة، أو في مواجهة تصاعد حدة الرفض الداخلي للتدخل العسكري في أزمات خارجية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذه التقارير أثارت ردود فعل قوية على مواقع التواصل الاجتماعي فور الإعلان عنها، حيث طرحت اتجاهات عديدة على تلك المواقع تساؤلات حول كيفية الإقدام على الترويج لما يتم محاربته وهو الإرهاب، إذ إن هذه الفيديوهات وغيرها من شأنها الترويج لنشاط التنظيمات الإرهابية، حتى وإن كان الغرض منها تعقب وضبط أعضاء تلك التنظيمات المؤكدين والمحتملين، أو حتى المتعاطفين معها.
وسيلة فعالة:
أثبتت مقاطع الفيديو الخاصة بتنفيذ عمليات إرهابية، أو حتى التهديد بالقيام بها، فاعلية كبيرة، نظرًا للأثر النفسي الذي تتركه لدى الرأى العام المتلقي، سواء كان مؤيدًا أو معارضًا للتنظيمات التي تقوم بإعدادها وبثها على مواقعها الإلكترونية.
ولعل الفيديو الأكثر تأثيرًا في هذا الإطار، بحسب العديد من الخبراء، كان الفيديو الذي بثه تنظيم "داعش" والخاص باستسلام أفراد من الجيش العراقي لعناصر التنظيم وتسليم أسلحتهم وترك مركباتهم على جوانب الطريق المؤدي إلى الموصل، حيث كان له أثر كبير في سقوط الموصل دون مقاومة تذكر من قاطنيها بعد أن أثار في نفوسهم هذا الفيديو الرهبة من مواجهة عدو استسلم له أفراد من الجيش.
ويبدو أن ثمة قوى عديدة بدأت تبدي اهتمامًا خاصًا بتلك الآلية نفسها، وذلك بهدف التقليل من الآثار السلبية التي تفرضها مقاطع الفيديو التي تبثها التنظيمات الإرهابية لدى الرأى العام، حيث ظهرت فيديوهات مماثلة في هذا الإطار.
فعلى سبيل المثال لجأت الولايات المتحدة الأمريكية لهذه الآلية، للرد على الهجمات التي يقوم بتنفيذها تنظيم "القاعدة"، وذلك من خلال تصوير أهم العمليات العسكرية التي قامت بشنها ضد التنظيم.
دوافع عديدة:
وإلى جانب ذلك، يمكن القول إن ثمة عوامل أخرى دفعت أطرافًَا عديدة إلى استخدام هذه الآلية بشكل مكثف، يتمثل أهمها في:
1- التضييق على نشاطات التعبئة التي تقوم بها التنظيمات الإرهابية: اتجهت التنظيمات الإرهابية، من أجل التعامل مع القيود والضغوط التي تتعرض لها، إلى تعزيز قدراتها التواصلية مع جمهورها والرأى العام بشكل عام، من خلال الحرص على امتلاك أجهزة إعلامية متخصصة وعالية الحرفية، تمكنها من الترويج لأفكارها بأساليب مبتكرة، وتصوير أنشطتها بتقنيات عالية، واستخدامها كجزء من حرب نفسية في مواجهة الأطراف التي تشارك في العمليات العسكرية ضدها.
2- غياب الأطراف المحايدة: يُمثل عدم وجود جهات محايدة تقوم بنقل الأحداث في مناطق الصراع، بسبب صعوبة الوصول إليها وارتفاع مستوى المخاطر فيها، لا سيما في العراق وسوريا، وكذلك عدم وجود مراسلين للتغطية الإعلامية، فرصةً لزيادة مصداقية هذه الفيديوهات التي تنفرد بتقديم سيناريوهات لما يحدث على الأرض يصعب التيقن من مدى موضوعيتها.
3- سهولة الانتشار: ساعدت وسائل الإعلام الحديثة على انتشار مثل هذه الفيديوهات، حيث باتت مواقع التواصل الاجتماعي من أهم ساحات المواجهة بين التنظيمات الإرهابية والأطراف التي تشارك في الحرب ضدها؛ إذ تستخدمها تلك الأطراف بكثافة، للوصول إلى أكبر عدد من المتابعين من الرأى العام، نظرًا لشعبية هذه المواقع وتأثير محتوياتها على المتابعين.
وفي النهاية، يمكن القول إن فعالية وتأثير مقاطع الفيديو على وسائل التواصل الإعلامي والمواقع الإلكترونية ترشحها لأن تكون الوسيلة الأكثر استخدامًا خلال الفترة القادمة، خاصة في حالة ما إذا شهدت تطورًا ملحوظًا في تقنيات البث تواكب التطور الذي تشهده وسائل الإعلام في هذه المرحلة.